مسلمة بن حبيب الحنفي: النبي الذي طمسه التاريخ!
في أعماق التاريخ العربي، حيث تتشابك الحقائق والأساطير، تبرز شخصية مسلمة بن حبيب الحنفي، أو كما لُقّب لاحقاً بـ"مسيلمة الكذاب". هذا الرجل، الذي عاش في عصر النبي محمد، لم يكن مجرد متنبئ عابر، بل كان زعيماً دينياً وسياسياً أثار جدلاً واسعاً في شبه الجزيرة العربية. لكن التاريخ، كما كتبه المنتصرون، لم يرحم مسلمة، فطُمست سيرته وشُوّهت صورته. في هذا المقال، نغوص في حياة هذا "النبي المنسي"، مستندين إلى مصادر إسلامية وغير إسلامية، مع لمحة نقدية تكشف تناقضات السردية الإسلامية وتسلط الضوء على ما حُجب عنا.
من هو مسلمة بن حبيب؟ البدايات والنشأة
مسلمة بن حبيب الحنفي، المعروف أيضاً بـ"مسيلمة"، وُلد في اليمامة (قرب الرياض الحالية) في قبيلة بني حنيفة، إحدى القبائل البارزة في نجد. المصادر الإسلامية، مثل السيرة النبوية لابن هشام، تصفه بأنه كان "قصيراً شديد الصفرة، أخنس الأنف، أفطس"، وهي صفات تبدو مقصودة للنيل من هيبته. لكن المصادر غير الإسلامية، مثل كتابات المؤرخ جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، تشير إلى أن مسلمة كان شخصية كاريزمية، تتمتع بنفوذ ديني وسياسي كبير قبل ظهور الإسلام.
كان مسلمة يُلقب بـ"رحمن اليمامة"، وهو لقب يعكس ارتباطه بدعوة دينية تركز على عبادة "الرحمن"، وهو اسم إلهي كان شائعاً بين الحنفاء (أتباع دين إبراهيم). المثير للسخرية أن قريشاً، عند سماعها النبي محمد يذكر "الرحمن" في قرآنه، قالت: "إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"، وهي إشارة إلى تأثير مسلمة الديني السابق للإسلام. هنا، يبدأ التساؤل: إذا كان مسلمة مجرد "كذاب"، فلماذا كان له هذا الحضور الطاغي؟
دعوته الدينية: محاكاة أم ابتكار؟
ادّعى مسلمة النبوة في وقت مبكر، ربما قبل أو بالتزامن مع بعثة محمد. المصادر الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، تزعم أنه حاول محاكاة القرآن بأسجاع مثل: "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس". هذه الأسجاع، التي تبدو ساذجة في الرواية الإسلامية، ربما كانت جزءاً من طقوس دينية معقدة، لكنها شُوهت لتصوير مسلمة كشخصية هزلية.
في المقابل، تشير مصادر مثل كتاب جمال علي الحلاق مسلمة الحنفي: قراءة في تاريخ محرّم إلى أن مسلمة كان يمتلك "قرآناً" خاصاً به، ومسجداً، وأتباعاً يصلون بإمامة إمام. هذا يوحي بأن دعوته لم تكن مجرد ادعاء عابر، بل نظاماً دينياً متكاملاً. بل إن بعض المؤرخين، مثل حسين مروة، يرون أن مسلمة كان حنيفياً أصيلاً، يدعو إلى عبادة الرحمن بطريقته الخاصة، وربما سبق محمداً في هذا المضمار.
السردية الإسلامية تصر على أن مسلمة كان "دجالاً" يستخدم الحيل، مثل وضع بيضة في خل لتصبح مطاطية، أو استخدام طائرات ورقية ليوهم الناس بأنها ملائكة. لكن، دعونا نكون صريحين: أليس من المحتمل أن تكون هذه الروايات جزءاً من حملة تشويه منهجية؟ فالمنتصر، كما يقول المثل، يكتب التاريخ، ويبدو أن المؤسسة الإسلامية لم تدّخر جهداً في تحقير خصمها.
لقاء المدينة: مواجهة مع النبي
في سنة 9 هـ، المعروفة بسنة الوفود، زار مسلمة المدينة مع وفد من بني حنيفة. المصادر الإسلامية، مثل السيرة النبوية، تروي أن أتباعه بايعوا النبي محمد، لكن مسلمة رفض البيعة، قائلاً: "أريد أن يشركني محمد في النبوة كما أشرك موسى أخاه هارون". رد النبي، بحسب الرواية، بقوله: "والله يا مسيلمة، لو سألتني هذا العرجون ما أعطيته لك".
هذه القصة، التي تبدو درامية بشكل مبالغ فيه، تثير تساؤلات. هل كان مسلمة يطالب فعلاً بالشراكة، أم أن هذا الحوار مُلفّق لإظهاره كشخص طامع؟ المصادر غير الإسلامية، مثل كتابات ضياء اسكندر، تشير إلى أن مسلمة ربما جاء للتفاوض كزعيم قبيلة وداعية ديني، لا كشخص يسعى للانضمام إلى الإسلام. اللافت أن قريشاً، حسب تفسير القرطبي، كانت تعتقد أن محمداً "يتعلم" من مسلمة، مما يعزز فكرة أن الأخير كان له تأثير ديني كبير.
حروب الردة: المعركة التي حسمت المصير
بعد وفاة النبي محمد، اندلعت حروب الردة، وكان مسلمة أحد أبرز أهدافها. المصادر الإسلامية، مثل فتوح البلدان للبلاذري، تروي أن أبو بكر أرسل خالد بن الوليد لقمع "المرتدين" في اليمامة. في معركة اليمامة (12 هـ/633 م)، قُتل مسلمة على يد وحشي بن حرب، قاتل حمزة بن عبد المطلب، في سخرية قدرية تجمع بين قاتل عم النبي وقائد بني حنيفة.
لكن، دعونا نتوقف قليلاً. السردية الإسلامية تسمي هذه الحروب "حروب الردة"، مشيرة إلى أن مسلمة وأتباعه كانوا مسلمين ثم ارتدوا. لكن كتاب مسلمة الحنفي لجمال الحلاق يقدم وجهة نظر مغايرة: مسلمة لم يكن مسلماً أصلاً، بل كان يقود حركة حنيفية منافسة. إذن، هل كانت هذه الحروب لقمع "الردة" أم لتوحيد شبه الجزيرة تحت راية قريش؟ المصادر غير الإسلامية، مثل أسعد إبراهيم الخزاعي، ترى أنها كانت صراعاً سياسياً بغطاء ديني.
تشويه السيرة: لماذا "مسيلمة الكذاب"؟
اللقب "مسيلمة الكذاب" ليس مجرد وصف، بل سلاح دعائي. المصادر غير الإسلامية، مثل نهاية الإسلام، تذكر أن اسم مسلمة صُغّر إلى "مسيلمة" مع إضافة تاء التأنيث للتحقير، مستغلة النظرة الدونية للنساء آنذاك. هذا التشويه لم يقتصر على الاسم، بل امتد إلى وصفه بالدمامة والفجور، رغم أن مصادر مثل الحلاق تؤكد أنه كان "سليم الجسم وصحيح السلوك".
السخرية هنا أن المؤسسة الإسلامية، التي تدعي الحفاظ على الحقيقة، لجأت إلى أساليب دعائية لتحقير خصمها. فإذا كان مسلمة مجرد دجال، فلماذا استمر أتباعه في الصلاة بـ"قرآنه" حتى زمن عثمان؟ ولماذا أُعدم حامل رسالته بعد عشر سنوات من مقتله؟ يبدو أن مسلمة لم يكن مجرد "كذاب"، بل تهديداً حقيقياً للمشروع الإسلامي.
الخاتمة: مسلمة، النبي الذي لم يُسمح له بالوجود
مسلمة بن حبيب الحنفي لم يكن مجرد شخصية هامشية، بل كان رمزاً لمقاومة دينية وسياسية في وجه الهيمنة القرشية. السردية الإسلامية، بكل براعتها، نجحت في تحويله إلى "مسيلمة الكذاب"، لكن الحقيقة، كما تكشفها المصادر غير الإسلامية، تظهر رجلاً كان له أتباع ودين ونظام. ربما لم يكن نبياً بالمعنى الذي نفهمه، لكنه كان، بلا شك، زعيماً لطائفة حنيفية تنافس الإسلام في مهده.
كمسلم سابق، أجد نفسي أتساءل: هل كان مسلمة حقاً "كذاباً"، أم أن التاريخ كذب علينا؟ ربما، في يوم ما، ستُكتب سيرته بعيداً عن أحكام المنتصرين، وسنرى صورة أخرى لهذا النبي الذي طُمس عمداً.