غزوة بني قريظة وتاريخ العنف في السيرة النبوية: مراجعة نقدية مستقلة
تُعدّ شخصية النبي محمد نقطة تحول محورية في تاريخ العالم، لا سيما في تأسيس الدولة الإسلامية ونشر الدين الجديد. ومع ذلك، فإن مسار هذا التأسيس لم يكن خالياً من الصراعات العسكرية التي تثير جدلاً كبيراً وتستدعي قراءة تاريخية نقدية، خصوصاً عند تجاوز الروايات الإسلامية التقليدية والانطلاق من منظور غير ديني أو مقارن. يهدف هذا المقال إلى الغوص في تاريخ حملات النبي محمد العسكرية، مع التركيز بشكل خاص على حادثة بني قريظة المأساوية، وتقديم تحليل نقدي يستند إلى المصادر التاريخية المختلفة ومناهج البحث الحديثة.
إن التعامل مع السيرة النبوية من منظور تاريخي غير إسلامي يتطلب وعياً بالتحديات المصدرية. فالمصادر الأساسية مثل سيرة ابن إسحاق (عبر ابن هشام) ومغازي الواقدي وتاريخ الطبري، ورغم قيمتها التاريخية، كتبت في عصور لاحقة ودوافعها الرئيسية كانت دينية وتمجيدية، مما قد يؤثر على دقتها وحيادها. في المقابل، المصادر غير الإسلامية المعاصرة شحيحة جداً ومحدودة التفاصيل. لذلك، يعتمد المؤرخ النقدي على مقارنة الروايات، وتحليل سلاسل الإسناد، ووضع الأحداث في سياقها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الأوسع لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وهو سياق اتسم بالعنف القبلي والحروب والغارات المستمرة كجزء من ديناميكيات البقاء والسيادة.
يثرب قبل الإسلام: فسيفساء القبائل والصراعات
لفهم الأحداث التي وقعت بعد هجرة النبي محمد إلى يثرب (المدينة المنورة)، من الضروري استيعاب تركيبتها السكانية المعقدة وعلاقات القوى فيها. كانت الواحة موطناً لقبائل عربية رئيسية مثل الأوس والخزرج، اللتين كانت بينهما حروب ودماء لسنوات طويلة، بالإضافة إلى ثلاث قبائل يهودية كبرى: بنو قينقاع، بنو النضير، وبنو قريظة. كان للقبائل اليهودية نفوذ اقتصادي كبير من خلال الزراعة، التجارة، والتعاملات المالية. كانت التحالفات بين هذه القبائل متغيرة وهشة، مما خلق بيئة من عدم الاستقرار.
مع وصول محمد والمهاجرين، برزت قوة سياسية ودينية جديدة في المدينة. تشير الروايات التاريخية إلى محاولة تنظيم العلاقات بين هذه المكونات المختلفة من خلال "وثيقة المدينة"، التي تهدف إلى إنشاء نوع من التعايش والتضامن بين الموقعين عليها. ومع ذلك، لم تدم هذه الحال طويلاً، وسرعان ما بدأت التوترات تظهر بين المجتمع المسلم المتنامي وبعض القبائل اليهودية.
صراعات مبكرة: إجلاء بني قينقاع وبني النضير
لم تكن حادثة بني قريظة هي المواجهة الأولى بين النبي محمد والقبائل اليهودية في المدينة. فقد سبقتها أحداث أدت إلى إجلاء قبيلتين يهوديتين أخريين. أولها كان إجلاء بني قينقاع بعد غزوة بدر بفترة وجيزة، إثر خلاف وقع في سوقهم.
أما القبيلة الثانية فكانت بنو النضير. وعن ما سبب إجلاء يهود بني النضير، تذكر المصادر الإسلامية أسباباً مختلفة تتراوح بين محاولة اغتيال النبي محمد من قبلهم، أو نقضهم لبنود معينة في عهدهم. يرى بعض المؤرخين النقديين أن هذه الأحداث كانت جزءاً من استراتيجية لتقويض القوة الاقتصادية والسياسية للقبائل اليهودية في المدينة والاستيلاء على ممتلكاتهم لتعزيز قوة الدولة الإسلامية الناشئة. إجلاء بني النضير سمح للمسلمين بالاستيلاء على أراضيهم النخيلية، مما وفر مورداً اقتصادياً مهماً للمهاجرين والأنصار. كانت هذه الإجراءات ضد بني قينقاع وبني النضير تمثل سابقة لتعامل محمد مع القبائل اليهودية التي لم تندمج بالكامل في النظام السياسي الجديد في المدينة.
غزوة الخندق وخيانة بني قريظة المزعومة
كانت غزوة الخندق (أو الأحزاب) عام 627 للميلاد منعطفاً حاسماً. فقد شكلت قريش تحالفاً كبيراً ضم قبائل عربية مختلفة، بالإضافة إلى بقايا بني النضير الذين أُجلوا سابقاً، بهدف حصار المدينة والقضاء على المسلمين نهائياً. لجأ المسلمون إلى حفر خندق حول الأجزاء غير المحصنة من المدينة للدفاع عنها.
في خضم هذا الحصار العصيب، تبرز الرواية التقليدية حول كيف خان بنو قريظة المسلمين. وفقاً لهذه الرواية، ورغم وجود عهد بينهم وبين النبي محمد بعدم مساندة أعدائه، فإن زعيم بني النضير المُجلى، حيي بن أخطب، تمكن من الوصول إلى حصون بني قريظة وإقناع سيدهم كعب بن أسد بنقض العهد والانضمام إلى الأحزاب ومهاجمة المسلمين من الخلف. يُزعم أن هذا التهديد الجديد شكل خطراً جسيماً على المسلمين المحاصرين من قبل جيش الأحزاب. ما هي خيانة بني قريظة إذاً حسب الرواية التقليدية؟ إنها تتمثل في هذا التواصل والتآمر مع جيش الأحزاب المعادي، وكسر اتفاق الحياد أو المساندة الذي كان قائماً.
ومع ذلك، يثير مؤرخون نقديون تساؤلات حول حجم وطبيعة هذه الخيانة المزعومة. هل كانت مجرد مفاوضات أو إبداء استعداد للانضمام؟ هل قام بنو قريظة بأي عمل عسكري فعلي ضد المسلمين خلال الحصار؟ الأدلة في المصادر المبكرة ليست قاطعة للجميع وتترك مجالاً للتأويل والتشكيك في مدى الخطر الفعلي الذي شكلته بنو قريظة في تلك اللحظة بالذات لتبرير الرد القاسي اللاحق.
حصار بني قريظة وحكم سعد بن معاذ
بعد انسحاب جيش الأحزاب وفشل الحصار، توجه النبي محمد بجيشه فوراً نحو حصون بني قريظة. يُقال إن ذلك كان بأمر إلهي سريع ومباشر. حاصر المسلمون بنو قريظة في حصونهم لمدة خمسة وعشرين يوماً. مع اشتداد الحصار ووعورة الموقف، لم تجد القبيلة مفراً من الاستسلام. عرض عليهم سيدهم كعب بن أسد خيارات متطرفة (الإسلام، القتال حتى الموت، هجوم يوم السبت)، لكنهم رفضوها. في النهاية، استسلم بنو قريظة على أن ينزلوا على حكم النبي محمد.
تدخلت قبيلة الأوس العربية، التي كانت حليفة لبني قريظة قبل الإسلام، وطلبت من محمد الرفق بحلفائهم. اقترح محمد أن يحكّموا في بني قريظة رجلاً منهم، فاختاروا سعد بن معاذ، سيد الأوس، الذي كان مصاباً بجرح بليغ في غزوة الخندق. قبلت بنو قريظة بالتحكيم، على أمل أن يكون حكم حليفهم السابق لافتاً لهم.
تنفيذ الحكم: مجزرة بني قريظة
عندما وصل سعد بن معاذ، أخذ العهد من جميع الأطراف بقبول حكمه. ثم أصدر حكمه الذي يُعتبر من أكثر الأحكام قسوة في السيرة النبوية: ماذا فعل الرسول مع بني قريظة بناءً على هذا الحكم؟ لقد وافق النبي محمد على حكم سعد فوراً، قائلاً إنه "حكم بحكم الله من فوق سبع سماوات". كان الحكم يقضي بـ "أن يُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء".
بعد صدور الحكم، أمر محمد بتنفيذه. تصف المصادر الإسلامية عملية التنفيذ المروعة. سيق رجال بني قريظة، الذين يُقدر عددهم في المصادر المتضاربة بين 600 إلى 900 رجل، إلى سوق المدينة حيث تم حفر خنادق. هناك، تم قطع رؤوسهم في عملية جماعية. عن من نفذ مجزرة بني قريظة بالتحديد، تذكر المصادر أن عدداً من الصحابة قاموا بقطع الرؤوس بأمر من النبي محمد. استُثني من القتل الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم (لم تنبت شعرتهم)، وبعض الرجال الذين أسلموا قبل الاستسلام.
أما عن مصير الناجين، أو أين ذهب يهود بني قريظة من النساء والأطفال، فقد تم جمعهم وسُبيوا. تم توزيع جزء منهم كغنائم على المسلمين، وتم بيع جزء آخر في أسواق الرقيق، حيث يُقال إن ثمنهم استُخدم لشراء الخيل والسلاح. تذكر بعض الروايات أيضاً إعدام امرأة واحدة من بني قريظة يُقال إنها قتلت مسلماً أثناء الحصار.
مجزرة بني قريظة في الميزان التاريخي: قراءة نقدية
تثير أحداث بني قريظة وحجم العنف الممارس فيها انتقادات حادة وتساؤلات تاريخية وأخلاقية من منظور غير إسلامي:
موثوقية الرواية: يعتمد الجزء الأكبر من تفاصيل غزوة بني قريظة على المصادر الإسلامية المتأخرة نسبياً. التباين في عدد القتلى، والشكوك حول مدى وضوح وخطورة خيانة بني قريظة الفعلية، يجعل المؤرخ النقدي يتعامل مع هذه الرواية بحذر. بعض الباحثين يشككون في الأعداد الضخمة للقتلى، ويرون أنها قد تكون مبالغاً فيها لتعظيم الانتصار أو تبرير الفعل اللاحق، ويقترحون أن من قُتلوا ربما كانوا فقط القيادات أو الذين ثبت تورطهم بشكل قاطع.
عدالة الحكم: من منظور حقوق الإنسان والعدالة الحديثة، يُعدّ حكم سعد بن معاذ الذي أيده محمد، والذي أدى إلى إعدام جماعي لرجال قبيلة كاملة بعد استسلامها، أمراً غير مقبول على الإطلاق. حتى لو افترضنا وجود خيانة، فإن العقوبة تبدو غير متناسبة بشكل صارخ وجماعية الطابع، حيث عوقب جميع الرجال بغض النظر عن درجة تورطهم الفردي. اختيار سعد كحكم، وهو طرف متضرر ومصاب إصابة قاتلة على يد حلفاء من تآمر معهم بنو قريظة، يثير أيضاً تساؤلات حول حيادية العملية.
السياق التاريخي مقابل الأخلاق: يجادل البعض بأن حكم بني قريظة كان متوافقاً مع الأعراف الحربية القاسية في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع، أو حتى مع بعض الأحكام الموجودة في التوراة بشأن معاملة المدن المحاصرة. ورغم أهمية وضع الحدث في سياقه التاريخي لفهمه، فإن هذا لا يعني بالضرورة تبريره أخلاقياً من منظور عالمي أو معاصر. العديد من النقاد يرون أن مستوى العنف الممارس في بني قريظة كان استثنائياً حتى بمعايير ذلك العصر.
الدوافع الكامنة: بالإضافة إلى التفسير الديني (عقاب نقض العهد)، يرى التحليل غير الإسلامي أن دوافع سياسية واقتصادية قوية كانت وراء هذه الغزوة والعقاب القاسي. كان القضاء على بني قريظة يعني إزالة آخر قوة يهودية مستقلة في المدينة، وتوطيد سيطرة محمد الكاملة عليها. كما أن الاستيلاء على ممتلكاتهم وثرواتهم كان أمراً حيوياً لتمويل الدولة الناشئة وتعزيز مكانة محمد بين أتباعه. يمكن رؤية هذه الأحداث كجزء من عملية بناء دولة تتطلب القضاء على المنافسين وتأمين الموارد، باستخدام القوة والعنف لتحقيق هذه الأهداف.
البعد الأخلاقي لمجزرة بني قريظة: رؤية نقدية معاصرة
عند تقييم أحداث بني قريظة من منظور أخلاقي معاصر، بمعزل عن أي تبريرات دينية أو سياقية، تبرز مجموعة من الانتهاكات الجسيمة. إعدام مئات الرجال المستسلمين يُعدّ جريمة حرب بشعة وعقاباً جماعياً غير عادل. سبي النساء والأطفال واسترقاقهم هو انتهاك صارخ للكرامة الإنسانية وحقوق الطفل والمرأة، ويمثل ممارسة عانت منها البشرية طويلاً وتجرمها المواثيق الدولية اليوم.
حتى مع التسليم بأن معايير الحرب والأخلاق في القرن السابع كانت مختلفة، فإن مستوى القسوة الموصوف في المصادر يظل صادماً. إن تحليل هذه الأحداث من منظور أخلاقي نقدي لا يهدف إلى إسقاط المعايير الحديثة بشكل أعمى على الماضي، بل يهدف إلى مساءلة الأفعال التاريخية في ضوء مبادئ إنسانية أساسية تتجاوز الزمان والمكان، وإلى فهم كيف يمكن للسلطة والصراع أن يؤديا إلى ممارسات وحشية.
خلاصة: غزوة بني قريظة في سياقها التاريخي والإشكالات النقدية
في الختام، فإن دراسة غزوة بني قريظة وحملات النبي محمد العسكرية من منظور تاريخي نقدي وغير إسلامي تكشف عن صورة معقدة ومثيرة للجدل. بينما تقدم المصادر الإسلامية التقليدية رواية مبررة دينياً لأحداث بني قريظة، فإن التحليل النقدي يسلط الضوء على التباينات في الروايات، ويشكك في الأدلة المقدمة لتبرير الفعل، ويركز على الدوافع السياسية والاقتصادية الكامنة.
تبقى ما هي خيانة بني قريظة بالضبط، وكيف خان بنو قريظة المسلمين، وعدد من نفذ مجزرة بني قريظة وعدد ضحاياها الفعلي، وأين ذهب يهود بني قريظة الناجون، وما سبب إجلاء يهود بني النضير سابقاً، كلها أسئلة تستدعي بحثاً معمقاً ونقاشاً مفتوحاً يتجاوز الإطار الديني الضيق. إن فهم هذه الأحداث في سياقها التاريخي القاسي أمر ضروري، ولكنه لا يلغي ضرورة إجراء تقييم أخلاقي نقدي لها في ضوء القيم الإنسانية. إن تاريخ بني قريظة يظل تذكيراً قوياً بتعقيدات التاريخ، وتداخل الدين والسياسة والاقتصاد في تشكيل الأحداث، والتحديات التي تواجه أي محاولة لإعادة بناء الماضي بشكل كامل وموضوعي.