فما استمتعتم به منهن: بين التأويل والترقيع
لم تكن آية "فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً" (النساء 24) مجرد حكم شرعي عابر في التاريخ الإسلامي، بل تحولت إلى ساحة معركة فقهية وسياسية طاحنة بين المذاهب. فبينما يراها الشيعة "نعمة إلهية" تتيح حلّ أزمات الجنس والزواج، يصفها السنة بـ"المنسوخ المُحرَّم" الذي لا يليق بسماحة الإسلام! فكيف تحوَّل النص القرآني الواحد إلى تأويلات متضاربة؟ وهل كان "الترقيع الفقهي" حلاً لمشكلات اجتماعية أم تفريغاً لمعنى الآية؟ أدعوك لتفتح عقلك وتغوص معي في هذه الآية، لنستكشف معاً تناقضاتها وتحدياتها، مستندين إلى مصادر إسلامية وغير إسلامية، بأسلوب يخاطب العقل مباشرة، بعيداً عن التعصب أو التهويل.
السياق النصي واللغوي للآية
وردت الآية في سياق الحديث عن الأنكحة المشروعة بعد حظر الزواج من المحصنات (النساء: 24):
"والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم... وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة"
المصطلحات الأساسية في الآية تفتح الباب أمام تفسيرات متباينة:
"استمتعتم": من الجذر (م ت ع)، والذي يدلّ على المنفعة المؤقتة أو الاستفادة العارضة.
"أجورهن": تُستخدم عادة للإشارة إلى ما يُعطى في مقابل خدمة، أو في سياق عقد.
هذه اللغة لا تحتوي على الإشارات التقليدية لعقد الزواج الدائم كما هو مصطلح عليه في الشريعة: من قبيل "العقد"، "الولي"، "الإشهاد"، أو حتى مفردات مثل "نكاح" أو "زوجة". مما دعا بعض المفسرين والمحدثين إلى الربط بين هذه الآية وزواج المتعة تحديدًا.
القراءات القرآنية: "إلى أجل مسمى" وأثرها في تشكيل الفهم الفقهي
من الجوانب الجوهرية لفهم هذه الآية هو الاطلاع على القراءات القرآنية المتعددة لها. فرغم أن القراءة المتداولة حاليًا هي:
"فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن"
فإن بعض الصحابة، وعلى رأسهم ابن عباس وأُبيّ بن كعب، كانوا يقرأونها بصيغة:
"فما استمتعتم به منهن إلى أجلٍ مسمى فآتوهن أجورهن"
(ذكرها الطبري، والقرطبي، والرازي، والزمخشري)
إضافة عبارة "إلى أجلٍ مسمى" تغيّر المعنى جذريًا، وتجعل من الآية نصًا واضحًا في تشريع زواج المتعة المؤقت. وقد استدلّ الشيعة بهذه القراءة، وأكّدوها ضمن تراثهم التفسيري والفقهي.
في المقابل، تُعد هذه القراءة من القراءات الشاذة وفق علم القراءات، أي أنها لم تُدرج ضمن المصحف العثماني الرسمي. ومع ذلك، يبقى وجودها في التراث التفسيري، وشيوعها في مرحلة مبكرة من الإسلام، دليلًا على أن دلالات الآية لم تكن محسومة حتى بين الصحابة أنفسهم.
موقف الفقه الشيعي: تشريع قائم على النص والاستمرار التاريخي
الفقه الإمامي الشيعي يتبنى أن آية الاستمتاع تمثل نصًا تشريعيًا أصليًا يجيز المتعة، دون أن يكون قد لحقه نسخ. ويستند في ذلك إلى:
النص القرآني ذاته (بقراءتيه)
الروايات الواردة عن النبي وأهل البيت
المواقف المنقولة عن الخلفاء، وخصوصًا عمر بن الخطاب، الذي يُنقل عنه قوله:
"متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما"
(أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح)
من هنا، يرى الفقه الشيعي أن التحريم الذي وقع لاحقًا لم يكن وحيًا، بل اجتهادًا سياسيًا من الخليفة، وهو اجتهاد لا يملك شرعية نسخ نصوص قرآنية أو سنية.
الموقف السني: من الإباحة إلى التحريم... ثم إلى إعادة التوصيف
الفقه السني يُجمع على أن زواج المتعة كان مباحًا في البداية، لكنه يرى أن هذا الحكم قد نُسخ لاحقًا. لكن الخلاف يكمن في توقيت النسخ وكيفيته:
بعض الروايات تقول إنه نُسخ في غزوة خيبر
أخرى في فتح مكة
وبعضها في حجة الوداع أو تبوك
ورغم هذا، لا يوجد نص قرآني صريح يُبطل الحكم السابق، مما جعل أغلبهم يستند إلى أحاديث منسوبة إلى النبي كحجّة في النسخ، وهو ما يطرح تساؤلات حول آلية التشريع في الإسلام.
ومع غياب النص القطعي، ظهرت توجهات فقهية معاصرة تحاول التوفيق بين التحريم الموروث وحاجات العصر، عبر اختراع صيغ جديدة للزواج المؤقت: كـ"الزواج بنية الطلاق"، أو "الزواج العرفي"، وهي صيغ تماثل المتعة في الجوهر، لكنها تُغلّف بلغة فقهية مختلفة لتجنب الحرج الشرعي.
المرأة بين النص والتأويل: من إنسانة إلى موضوع استمتاع مؤقت
لا يمكن قراءة الآية محل النقاش — "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" — بمعزل عن سؤال جوهري يتعلق بمكانة المرأة في المنظومة التشريعية الإسلامية. فالنص، على بساطته الظاهرية، يُعبّر عن علاقة تُختزل فيها المرأة في كونها موضوعًا لـ"الاستمتاع" مقابل "أجر"، مما يطرح تساؤلات عميقة حول الكرامة الإنسانية والتموضع الاجتماعي للمرأة في ذلك السياق.
من الناحية اللغوية، لا تشير الآية إلى علاقة شراكة متبادلة أو رابطة وجدانية، بل إلى صفقة مؤقتة مشروطة بالمال، حيث يكون الدفع "فريضة" بمجرد تحقق الاستمتاع، وهو ما يقترب كثيرًا من منطق العقود التجارية أكثر من كونه عقدًا إنسانيًا.
المرأة هنا ليست صاحبة قرار مستقل، ولا طرفًا تفاوضيًا متساويًا، بل تظهر كـ"محل" للتعاقد. ولا يُذكر في الآية أي شرط من شروط الحماية، مثل الإشهاد أو الإعلان أو النفقة أو حتى الاحترام. ما يهم هو تحقق المتعة، ودفع المقابل. وهذا الخطاب يوحي — وإن لم يقل ذلك صراحة — بأن المرأة ليست ذاتًا أخلاقية كاملة، بل "وسيلة" ضمن علاقة نفعية محضة.
ويزداد الأمر تعقيدًا عندما ننظر إلى الممارسة التاريخية للمتعة، كما ورد في كتب الحديث والسير، حيث كانت النساء المتمتَّع بهنّ يأتين من طبقات اجتماعية أدنى، غالبًا من الإماء أو الفقيرات، ويُنظر إليهن على أنهن خارج منظومة الشرف التقليدي، بخلاف "الزوجات" الدائمات. بل تشير بعض الروايات إلى أن الرجال كانوا يعرضون المال مقابل المتعة لبضع ليالٍ ثم يرحلون دون أدنى التزام، كما في روايات صحاح عن الصحابة في الغزوات.
وقد انعكس هذا التوصيف على نظرة الفقهاء كذلك. فزواج المتعة لا يترتب عليه إرث، ولا نفقة، ولا عدة طويلة، ولا حقوق زوجية مستقرة. بل إن بعض الفقهاء أباحوا ممارسة المتعة دون إذن الولي أو إشهاد، وهو ما يجعلها أقرب إلى تسويغ ديني لممارسة جنسية عابرة، منه إلى عقد يحفظ كرامة المرأة.
في هذه الرؤية، المرأة تصبح قابلة "للشراء المؤقت" ضمن منظومة شرعية، وقد عبّر عن ذلك بشكل صريح ابن حزم في المحلى، حيث قال:
"زواج المتعة عقد تزوج بلفظ الاستمتاع إلى أجل معلوم، على مهر معلوم، بلا ولي ولا شهود، وهو حلال".
ورغم أن الفقهاء قد اختلفوا لاحقًا في حكم هذه العلاقة، إلا أن المنطق الذي تتأسس عليه لم يُراجع من منظور حقوقي نسوي أو إنساني. بل حتى عند التحريم، لم يكن الدافع حفظ كرامة المرأة أو حماية العلاقة الزوجية، وإنما المحافظة على "نظام المجتمع الإسلامي" الذي اختار نوعًا آخر من الزواج الدائم.
تحليل نقدي: أين يبدأ النص وأين تنتهي السلطة؟
تُظهر هذه الآية، وما دار حولها من قراءات وتأويلات، نموذجًا واضحًا لكيفية تداخل النص القرآني مع الدينامية السياسية والتاريخية في التشريع الإسلامي. كما أن تعدد القراءات لا يعكس فقط تنوعًا لغويًا، بل صراعًا تأويليًا حاول فيه كل تيار فرض رؤيته لما ينبغي أن يكون عليه الحكم الشرعي.
النقاش هنا يتجاوز مجرد مسألة فقهية جزئية، ليطرح سؤالًا أوسع:
هل التشريع الإسلامي قائم على نصوص ثابتة، أم أنه خاضع في كثير من الأحيان لتأثيرات سياسية واجتماعية، يتم من خلالها تأويل النص أو حتى تحجيمه لصالح سلطة معينة أو ذوق اجتماعي متغير؟
في حالة زواج المتعة، نجد أن الخلاف لا يدور حول النص فقط، بل حول من يمتلك الحق في تفسير النص، ومن يملك سلطة تقييد ما يُفهم منه. وهذا ما يجعل القضية نموذجًا تحليليًا غنيًا لتفكيك العلاقة بين النص والتاريخ في الفكر الإسلامي.